القرآن من الله تعالى والله تعالى حكيم وفعل الحكيم كله حكمة، فكل شيء عند بقدر ومقدار، ووصف الله القرآن بقوله عز وجل
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(هود:1). ومن هنا نشطت الجهود لتتبع الظواهر اللغوية في القرآن الكريم، للكشف عن أسرار هذا الكتاب المعجز، في نظمه ولفظه وصوته.. المعجز في معانيه، المعجز في أثره..الخ.
ولم ينل كتاب في الدنيا دراسات فيه وحوله مثلما نال القرآن الكريم، بيد أنه رغم استبحار ووفرة الدراسات القرآنية، إلا أن القرآن الكريم لا يزال يستنهض الباحثين لمزيد من البحث في آفاقه الممتدة التي لا تتوقف عند نهاية: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (الكهف /109).
وكل باحث ـ حسبما يتيسر له من أدوات بحثه ـ يكشف الله جانباً من أسرار الكتاب ومع ذلك لا تنفذ الأسرار: (كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا) (الإسراء/20).
إن التأمل المتأني والأمانة والدقة التي يتطلبها المنهج العلمي تقتضي أن نضيف حرف التبعيض (من) إلى العنوان ليصبح " من الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم" وذلك لأن البحث الصوتي له فروع ومستويات ولا يقتصر فقط على بحث الصوت اللغوي، فهناك البحوث الصوتية الفيزيائية، وغير ذلك.
وأيضاً يملي علينا العنوان أن نتوقف عند الظواهر الصوتية التي تلفت الانتباه في القرآن الكريم ويظهر فيها وجه من وجه الإعجاز. وعليه فلن تكون المقالة حصراً شاملاً لكل الظواهر الصوتية في القرآن الكريم، وإنما تدور محاضرة اليوم حول عناصر ثلاثة هي :
1. أثر صوتيات القرآن الكريم في الاستقرار الصوتي للغة العربية.
2. الفاصلة بين التناسق الصوتي ورعاية المعنى.
3. قضية التناسق الصوتي على مستوى اللفظ والصوت المفرد والتركيب في القرآن الكريم.
أولاً: أثر صوتيات القرآن الكريم في الاستقرار الصوتي للغة العربية:
كان التلقي الشفاهي هو الأساس في نقل القرآن الكريم، بداية من سيدنا جبريل عليه السلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وصولاً إلى زماننا المعاصر، وهكذا إلى أن تقوم الساعة.
لهذه الخاصية (المشافهة) آثار تصل إلى حد الإعجاز، لكن إلف العادة هو الذي يمنعنا أو يحجب عنا ملاحظة نواحي الإعجاز. ولكن إذا ما قورنت العربية بغيرها من اللغات وما حدث لها ـ يظهر أثر القرآن على الاستقرار الصوتي للغة العربية. ويمكن إجمال الأثر في العناصر التالية:
(1) حفظ اللغة العربية حية إلى الستة المسلمين في بقاع الأرض كلها:
المتأمل للتاريخ يرى بوضوح لغات كثيرة قد اندثرت بموت أهلها أو ضعفت بضعفهم، فأين اللغة الفينيقية الآن ـ لغة أهل لبنان قديماً ـ وأين اللغة المصرية، والآشورية .. الخ.
إن ارتباط اللغة العربية بالقرآن جعلها محفوظة بحفظه، وباقية ببقائه، وسبحان الله القائل: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر/9).
والذي يدقق النظر في العربية المعاصرة يجد الكثير من الألفاظ التي هجرت وظل بقاؤها حية على الألسنة قاصراً على الاستخدام الديني لها وهو الاستخدام المرتبط بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
(2) استقرار اللغة العربية :
رغم أن التطور سنة جارية في كل اللغات، وأكثر مظاهره يكون في الدلالات، إلا أن العربية ظلت محتفظة بكل مستوياتها اللغوية (صوتية ـ صرفية ـ نحوية ـ دلالية)، وما تطور منها كان في إطار المعاني الأصلية وبسبب منها.
والمحافظة على الأصل الدلالي للفظ على تطور الزمن له فائدة لا يستهان منها، فتواصل الفهم بين الأجيال للنصوص القديمة وتراث الأمة أمر من الأهمية بمكان، ويزداد أدراك أهمية الأستقرار اللغوي الذي تتميز به العربية إذا ما تأملنا التعبير السريع الذي يلحق اللغة الإنكليزية (لغة الحضارة المعاصرة)، فنصوص الإنجليزية القديمة(التي مر عليها قرابة ثلاثة قرون) أصبحت عصية على الفهم بالنسبة للإنجليزية المعاصرة.
ولعل هذا التغير السريع هو الذي دفع علماء هذه اللغة إلى إعادة صياغة النصوص الأدبية المهمة عندهم، مثل نصوص شكسبير بإنجليزية حديثة يفهمها المعاصرون بدلا من الإنجليزية القديمة.
في حين أن العربي المعاصر يقرأ آيات القرآن الكريم فلا يحس معها بغرابة، ويكفي النظر إلى هذه ا لآيات : (آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) (البقرة/1ـ2).
ومن الحديث النبوي الشريف قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) رواه البخاري.
فرغم مرور أربعة عشر قرناً فإن الإنسان لا يكاد يجد صعوبة في فهم هذه النصوص، ولا تصادفه غرابة في الألفاظ، وما يصادفنا من ألفاظ صعبة فإن أبسط المعاجم يمكن أن يبدد هذه الصعوبة. وهكذا الشأن مع باقي المستويات اللغوية (الصوتية، والصرفية، والنحوية)، وهذه مزية عظيمة أن تكون الأمة موصولة بتراثها الزاخر تفيد منه وتنتفع به.
وتأمل مزية استقرار اللغة العربية، التي تفردت بها عن سائر اللغات التي تغيرت وتبدلت تغيراً وتبدلاً جعل من اللغة الواحدة لغات كثيرة متباينة، وهذا يؤدي بنا إلى التساؤل:
ما السبب وفي وجود هذه المزية؟ هل يمكن إرجاع هذه المزية إلى أن اللغة العربية، كانت لغة عالمية فيها كل ما تفتقر إليه الأمم في كل الأزمنة والأمكنة من ألفاظ ومعان وأخيلة، بحيث يجد الناس فيها ما يفتقرون إليه، لذلك فهم يحرصون عليها ؟ وهذا بعيد.
فما كانت اللغة العربية ولا غيرها كذلك [1]أم أن مزية استقرار اللغة العربية ترجع إلى أهلها مكانتهم الإجتماعية والسياسة والعلمية؟ والواقع يكذب ذلك، فقد كان أهل العربية في موضوع متأخر الشأن بجوار حضارتين عظيمتين هما الفرس والروم. وهكذا ينتهي بنا التأمل إلى أن الباحث لا يجد سببا مقنعاً لهذه المزية سوى أنها أثر القرآن الكريم.
(3) تهذيب اللغة العربية :
(أ) فقد نحى القرآن الكريم عن اللغة التقعير في الكلام والغريب والألفاظ الحوشية الثقيلةعلى السمع، وأن من يتأمل النثر أو الشعر الجاهلي يرى كثيراً من الكلمات الحوشية، ومن ذلك: " جحيش" ، و" مسشزرات"، و" جحلنجح" ، و " البخصات " ، و " الملطاط " ، وغير ذلك كثير.
ومن ذلك أيضاً ما رواه القالي في أماليه لأبي محلم الشيباني في أواخر القرن الثاني من كتاب إلى بعض الحذائين في نعل .. قال هذا المتقعر: (دنها، فإذا همت تأتدن، فلا تخلها تمرخد، وقبل أن تقفعل، فإذا ائتدنت فامسحها بخرقة غير وكيلة، ولا جشيّة، ثم امعسها معساً رقيقاً، ثم سن شفرتك، وأمهها فإذا رأيت عليها مثل الهبوة فسن رأس الأزميل)الخ.
(ب) نحي القرآن الكريم أيضاً كثيراً من الألفاظ التي تعبر عن معان لا يقرها الإسلام ومن ذلك:
1. " المرباع " : وهو ربع الغنيمة إلى الذي كان يأخذه الرئيس في الجاهلية .
2. " النشيطة ": وهي ما أصاب الرئيس قبل أن يصير إلى القوم، أو ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغ الموضع المقصود.
3. " المكس " : وهو دراهم كانت تؤخذ بائعي السلع في الأسواق الجاهلية.
4. قولهم للملوك : " أبيت اللعن " .
ومثل ذلك كثيراً يرجع إليه في بطون كتب التراث.
(4) سعة انتشار اللغة العربية :
يتبع عن الدكتور محمد محمد داود