لحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا ريب أن الأمة تعيش أحوالاً عصيبة، قد تكون أحرج أيام مرت بها عبر
التاريخ؛ فالمصائب متنوعة، والجراحات عميقة، والمؤامرات تحاك تلو
المؤامرات.
يضاف إلى ذلك ما تعانيه الأمة من الضعف، والهوان، والفُرقة، وتسلط الأعداء.
وما هذا الذي يجري في كثير من بلاد المسلمين _ إلا سلسلة من المكر الكبَّار، والكيد العظيم، والقتال الذي لا يزال مستمراً.
"وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا " [البقرة: 217].
"وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ..." [البقرة: 109].
وفي مثل هذه الأحوال يكثر السؤال، ويلح خصوصاً من فئة الشباب المحبين
لدينهم، الراغبين في نصرته؛ فتراهم، وترى كل غيور على دينه يقول: ما دوري
في هذه الأحداث؟ وماذا أفعل؟ وكيف أتعامل مع هذا الخضم الموَّار من الشرور
والفتن والأخطار؟
وقد يخالط بعضَ النفوس من جراء ذلك شيءٌّ من اليأس، والإحباط، وقد يعتريها الشك في إصلاح الأحوال، ورجوع الأمة إلى عزها وسالف مجدها.
ومهما يك من شيء فإن هذه الأمة أمة مباركة موعودة بالنصر والتمكين متى توكلت على الله، وأخذت بالأسباب.
وهذا الدين أنزله الله _ عز وجل _ وبعث به الرسول –صلى الله عليه وسلم - ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
أما التعامل مع هذه النوازل والمصائب والفتن فهو مبين في كتاب الله _عز
وجل_ وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم - موضح في كتب أهل العلم التي تكلمت
في هذا الباب.
ومما تجدر الإشارة إليه، ويحسن الطَّرْق عليه في هذا الصدد مما هو معين
_بإذن الله_ على حسن التعامل مع الفتن، والمصائب، والخروج منها بأمان_أمور
كثيرة، وفيما يلي ذكر لشيء منها، مع ملاحظة أن بعضها داخل في بعض؛ فإلى
تلك الأمور، والله المستعان وعليه التكلان.
أولاً: الاعتصام بالكتاب والسنة:
وهذا المعلم جماع هذا الباب كله؛ إذ جميع المعالم الآتية داخلة فيه،
متفرعة عنه، قال الله _عز وجل_: "وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ
هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [آل عمران101].
وقال النبي: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض"(1)
وقال_عليه الصلاة والسلام_ في حديث العرباض بن سارية- رضي الله عنه -:
"وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة
ضلالة" (2) فالتمسك بالوحيين عصمة من الزلل، وأمان _بإذن الله_ من الضلال.
وليس الاعتصام بهما كلمة تتمضمض بها الأفواه من غير أن يكون لها رصيد في الواقع.
وإنما هي عمل، واتباع في جميع ما يأتيه الإنسان ويذره.
ويعظم هذا الأمر حال الفتن؛ إذ يجب الرجوع فيها إلى هداية الوحيين؛ لكي نجد المخرج والسلامة منها.
وهذا ما سيتبين في الفقرات التالية _إن شاء الله_.
ثانياً: التوبة النصوح:
فهي واجبة في كل وقت، وهي في هذه الأوقات أوجب "فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا" [الأنعام: 43].
ولنا في قصة قوم يونس _ عليه السلام _ عبرة وموعظة؛ فهم لما رأوا نُذُر
العذاب قد بدأت تلوح لجأوا إلى الله، وتضرعوا إليه، فرفع الله عنهم العذاب
ومتعهم بالحياة إلى حين مماتهم، وانقضاء آجالهم.
فعلى الأمة أن تتوب، وأن تدرك أن ما أصابها إنما هو جارٍ على مقتضى سنن
الله التي لا تحابي أحداً كائناً من كان؛ فتتوب من المنكرات التي أشاعتها
من شرك، وحكم بغير ما أنزل الله، وتقصير في الدعوة إلى الله، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتتوب من المظالم، والربا، والفسق، والمجون، والإسراف، والترف وما إلى ذلك مما هو مؤذن باللعنة، وحلول العقوبة.
وعلى كل فرد منا أن ينظر في حاله مع ربه، وفي جميع شؤونه؛ لأن "مَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ
كَثِيرٍ" [الشورى: 30].
ثالثاً: النظر في التاريخ:
خصوصاً تاريخ الحروب الصليبية، وذلك لأخذ العبرة، وطرد شبح اليأس، والبحث عن سبل النجاة والنصر.
فلو نظرنا _ على سبيل المثال _ إلى كتب التاريخ كتاريخ ابن الأثير أو
البداية والنهاية لابن كثير لرأينا العجب من تسلط الصليبين، ولرأينا أن
بغداد وبيت المقدس _ على سبيل المثال _ يتكرر ذكرهما كثيراً؛ فلقد لاقت
تلك البلاد من البلاء ما الله به عليم، ومع ذلك ظلت صامدة، محافظة _إلى حد
كبير _ على إسلامها وعراقتها.
والتاريخ يعيد نفسه في هذه الأيام، وتلك البلاد وغيرها من بلاد المسلمين _ بإذن الله _ ستصمد في وجوه اليهود والنصارى المعتدين.
ولو نظرنا في كتب التاريخ التي تحدثت عن غزو التتار لبلاد المسلمين، وكيف
كانت شراسة تلك الهجمة، وكيف خالط النفوس من الرعب والأوجال ما خالطها،
وكيف بلغ ببعضها اليأس من أن تقوم للإسلام قائمة بعد ذلك.
وما هي إلا أن كشف الله الغمة، وأعاد العز والمجد للأمة، بل إن التتار أنفسهم دخلوا في الإسلام.
ومن النظر في التاريخ النظر في سير أبطال الإسلام وقواده إبان الحروب
الصليبية، وخصوصاً نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي _ عليهما رحمة
الله _ فسيرتهما تحمل في طياتها عبراً عظيمة تفيد في هذا الشأن كثيراً؛
حيث حرصا على توحيد الأمة، ولم شعثها، ورفع الذلة والإحباط اللذين خالطا
كثيراً من النفوس.
كما أنهما حرصا على الإعداد المتكامل للجهاد في سبيل الله؛ فنالت الأمة بذلك سؤدداً، ومجداً، ورفعة.
رابعاً: الإفادة من التجارب: فذلك من جميل ما ينبغي؛ فالحياة كلها تجارب،
واستفادة من التجارب، وميزة إنسان على إنسان، وأمة على أمة هي القدرةُ على
الاستفادة من التجارب وعدمُها؛ فالحوادث تمر أمام جمع من الناس؛ فيستفيد
منها أناس بمقدار مائة، وآخرون بمقدار خمسين وهكذا، وآخرون تمر منهم
الحوادث على عين بلهاء، وقلب معرض؛ فلا يفيدون منها شيئاً، ولا تحسُّ له
وجبةً، ولا تسمع لهم ركزاً.
والفرق بين من يستفيد من التجربة ومن لا يستفيد أن الأول يستطيع انتهاز الفرص في حينها، وأن يتجنب الخطر قبل وقوعه.
على حين أن الثاني لا ينتهز فرصة، ولا يشعر بالخطر إلا بعد وقوعه؛ فلا
يليق _ إذاً _ أن تمر بنا وبأمتنا التجارب؛ فنكررَ الخطأ، ولا نفيدَ من
عبر الماضي.
ولا يحسن بنا أن نُغْفِل تعامل أسلافنا مع ما مر بهم من البلايا، وكيف
تجاوزوا تلك المحن والفتن، بل علينا أن نقبس من هداهم، ونستَلْهِم العبر
من صنيعهم.