أما القسم الثاني :
من أساتذة عبد الحميد بن باديس فهم الذين لم يتلق عليهم العلم بطريق مباشر وإنما تتلمذ عليهم عن طريق آثارهم وكتاباتهم، وقد حدثنا عن واحد منهم حديثا مفصلا وهو الأستاذ "طاهر بن صالح بن أحمد موهوب السمعوني الجزائري" المهاجر من الجزائر إلى ديار الشام حيث تولى قضاء المالكية بها.
وقد ارجع إليه الفضل في تكوين فكره منذ أن كان صغيرا إلى أن أصبح رجلا وكان يدعوه "شيخي" وقد كتب عنه دراسة طويلة في مجلة "الشهاب" تحت عنوان "شيخي" جاء فيها قوله : "هو الذي ربى عقلي، وهو الذي جبَّب إلي هذا الاتجاه الفكري، منذ أن كنت طفلا إلى أن صرت رجلا، ولا أعرف مؤلفًا ولا حامل قلم نشأ في ديار الشام إلا وقد كانت له صلة إما مباشرة أو بواسطة الذين استفادوا منه..."
وبالإجمال هو جرثومة الخير الأولى. (بابن باديس "مجلة الشهاب" ج5، م13، ص : 230، عدد يوليو/جويلية سنة 1938 م).
ومنهم الشيخ محمد عبده الذي تأثر بأفكاره وآرائه الإصلاحية عن طريق مجلة "المنار" التي كان الشيخ عبد الحميد بن باديس ينقل منها أحيانا بعض المقالات وينشرها في مجلة الشهاب، كما كانت له مراسلات وكتابات مع صاحبها الشيخ رشيد رضا تلميذ الإمام محمد عبده.
ومنهم الإمام أبو بكر بن العربي المتوفى سنة 543 هجرية صاحب كتاب "العواصم من القواصم" الذي نبهه إليه الشيخ محمد النخلي فبحث عنه وقرأه ثم استنسخه وقام بطبعه في جزأين بعد عودته إلى الجزائر من تونس وقدم له بمقدمة هامة.
ويظهر تأثير الإمام أبي بكر العربي في الشيخ عبد الحميد بن باديس في كتابه "العقائد الإسلامية" الذي لم يسلك فيه مسلك الفلاسفة، ولا منهج المتكلمين وإنما نهج القرآن الكريم في الاستدلال، وأساليبه في الرد والحجاج، ذلك المنهج الذي "يتلاءم مع الفطرة الإنسانية فتستجيب له وتطمئن إليه وتميل نحوه وتركن" .
ومنهم الشيخ "محمد بخيث المطيعي" العالم الازهري المشهور وزميل الإمام محمد عبده، والمدافع عنه والحامل للفكر الإصلاحية في الأزهر وهو أحد تلامذة السيد "جمال الدين الأفغاني". 6
وقد اتصل به الشيخ عبد الحميد بن باديس أثناء رجوعه من الحج سنة 1913 وزاره في بيته بحلوان وكتب له اجازة في دفتر إجازاته وعند وفاته سنة 1935 م ترجم له ابن باديس في مجلة الشهاب ج11، م11، ص : 606 – 617 عدد فبراير سنة 1936 ترجمة وافية.
وقد كان ابن باديس يتمتع باحترام أساتذته الكبير نظرا لجده ومتانة خلقه، وغزارة علمه، والدليل على ذلك أنه عندما كتب رسالة تحت عنوان "رالسة جواب سؤال عن سوء مقال" في عام 1340 هجرية للرد على الشيخ ابن عليوة المتصوف وشيخ الطريقة العليوية في مستغانم بالغرب الجزائري في البدع التي أحدثها في الدين، قام عدد كبير من أساتذته بتقريظها وأرسلوا إليه بتقاريظهم تباعا قطبعها ونشرها في الجزء الأخير من الرسالة المذكورة كما نشر فيها كذلك اسم العلماء المقرظين مع بيان وظائفهم وبلدانهم .
وفاته
لقد عاش الشيخ عبد الحميد بن باديس للفكرة والمبدأ ومات وهو يهتف (فإذا هلكت فصيحتي تحيا الجزائر والعرب) لم يحد عن فكرته ومبدئه قيد أنملة حتى آخر رمق من حياته، ولم يبال بصحته الضعيفة التي تدهورة كثيرا في السنتين الأخيرة من حياته، هذا هو ابن باديس الذي عرفته الجزائر عالما عاملا, وفقيها مجتهدا, ومربِّيا مخلصا, ومصلحا, وسياسيا, وإماما كان يقضي بياض نهاره وسواد ليله في خدمة دينه ولغته وبلاده. هذا هو الرجل الذي كان قلب الجزائر النابض, وروحها الوثابة وضميرها اليقظ, وفكرها المتبصر, ولسانها المبين, لم يضعف أمام هجمات الاستعمار المتتالية, ولم يستسلم لمناوراته وتهديداته, ولا للإغراءات والمساومات, بل بقي ثابتا على مبادئه صامدا حتى آخر حياته.
مساء يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول سنة 1359 هـ ، الموافق 16 أبريل 1940م، على الساعة الثانية والنصف بعد الزوال أسلم ابن باديس روحه الطاهرة لبارئها، متأثرًا بمرضه بمسقط رأسه مدينة قسنطينة، وكان محاطا بوالده وشقيقه الأكبر (الزبير) والطبيب الفرنسي القادم من العاصمة "ليفي فالونزي" وابن خاله الطبيب القسنطيني الشهير "بن جلول", وقد مات رحمه الله ولم تكن في رأسه شعرة بيضاء واحدة.
ولما أعلن البرّاح في الناس خبر وفاته اهتزّت أوجاع تلاميذه ومساعديه في مهنة التعليم والمتاعب, وعندما شاع خبر وفاته في الجزائر بكاه أبناء الوطن بكاءا حارا كما بكاه عارفوه، ومقدرو علمه، وجهاده، في سبيل الجزائر والإسلام، والعروبة، في كل من المغرب وتونس وليبيا، والمشرق العربي والعالم الإسلامي.
وقد شيعت جنازته في اليوم التالي لوفاته الموافق عصر يوم الأربعاء 9 ربيع الأول سنة 1359 هـ ، الموافق 17 أبريل 1940م، وحمل جثمانه إلى مثواه الأخير طلبة الجامع الأخضر دون غيرهم وسط جموع غفيرة ما يزيد عن مائة ألف نسمة، جاءوا من كافة أنحاء القطر الجزائري لتوديعه الوداع الأخير، في حين كان عدد سكان قسنطينة آنذاك لا يتجاوز 50 ألف نسمة. وقد تولى أداء الصلاة على جنازته الشيخ العربي التبسي, كما تولى تأبينه كل من الشيخ مبارك الميلي والعربي التبسي والدكتور محمد الصالح بن جلول يجدر، ودفن في مقبرة آل باديس الخاصة في مدينة قسنطينة رغم وصيته التي أوصى فيها بدفنه في مقبرة شعبية عامة.
وقد تركت وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس فراغا كبيرا في صفوف الحركة الوطنية، وفي رجال الإصلاح الإسلامي في الجزائر وغيرها، وبين جماهير الشعب التي كانت تعتبره الزعيم المخلص، والوطني الغيور على دينه، ولغته، وشعبه، ووطنه، وعلى الإسلام والعروبة، بصفة خاصة وقد قال الشيخ الشهيد العربي بن بلقاسم التبسي في تأبينه في المقبرة ما يلي : "لقد كان الشيخ عبد الحميد بن باديس في جهاده وأعماله، هو الجزائر كلها فلنتجتهد الجزائر بعد وفاته أن تكون هي الشيخ عبد الحميد بن باديس".
هذا وحامت الأقاويل حول موته، فمن قائل مات مسموماً كما زعمت إذاعة ألمانيا "هنا برلين" يوم 09 ماي 1940 م على لسان "تقي الدين الهلالي" : "أن السلطات الفرنسية في الجزائر هي المسؤولة على وفاته، وقد ذكرت أنه مات مسموما على أيدي الفرنسيين، كما فعلوا بمعظم العلماء، الذين ما يزال بعضهم يعاني في ظلمات السجون، وأن الطغاة الفرنسيين أرادوا تسميمه، وقد قتلوا جميع الزعماء من قبله والشعب الجزائري اليوم يطالب لفديته، وسينتقم له عاجلا أو آجلا" وربما هذا ما يفسر اختفاء الشيخ العربي التبسي ووفاة الشيخ الميلي والطيب بأمراض مجهولة.
ومن قائل أنه مات بسبب مرض، فيقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي : "بعد استقراري في المنفى بأسبوع تلقيت الخبر بموت الشيخ عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – بداره في قسنطينة بسرطان في الأمعاء كان يحس به وسنوات ويمنعه انهماكه في التعليم وخدمة الشعب من التفكير فيه وعلاجه... وكنت بدأت نذر الحرب تظهر وغيومها تتلبد أجتمع بالشيخ أبن باديس في داري بتلمسان فقررنا ماذا نصنع إذا قامت الحرب، وقررنا من يخلفنا إذا قبض علينا، قلّبنا وجوه الرأي في الاحتمالات كلها، وقدرنا لكل حالة حكمها، وكتبنا بكل ما اتفقنا عليه نسختين، ولكن كانت الأقدار من وراء تدبيرنا، فقبضه الله إليه".
كما أشار ابن جلول وهو من بين المأبنين البارزين للشيخ ابن باديس وابن خاله إلى مرض ابن باديس الذي ظل مجهولا حتى عند أقرب الناس إليه فيقول :"وبحكم مهنتي كطبيب تشرفت ببذل المعالجة له خلال مرضه الأخير, الذي قضى عليه ولم يرض بالتوجه إلي ومنحي ثقته لمعالجته إلا بعد أن فطنا له مرهق منذ عهد بعيد, وأن مشيه من مكتبه إلى الجمعية, إلى الجامع الأخضر قد أصبح مضنيا بالنسبة إليه, وقد بذلت ما في وسعي لكسب ثقته, وبذل الشفاء له, ويا أسفاه فالمرض قد كان يمخر جسمه شيئا فشيئا".
ويقول ابن جلول : أن ابن باديس بلغ منه التعب والإرهاق مبلغا جعله في آخر أيامه لا يقوى على تجاوز مسافة تقدر بمئتي متر على قدميه نظرا لتمكن المرض من جسمه النحيف المتهالك, فكان مرقده إلى جوار حجرة دروسه ولما أنهكه العيي, وهو الذي قاومه خمسين سنة, أذن لطلابه لأول مرة في حياته منحهم خمسة عشر يوما كعطلة بمناسبة المولد النبوي بعدما عرف عنه أنه لم يكن يقبل بأكثر من ثلاثة أيام كتوقف عن التحصيل, ولما أظهر طلابه المتعلقون به تعجبهم من هذا التسريح الذي يدوم نصف شهر, أجابهم بلغة يائسة وألم يمزق أحشاءه وحسرة تعتصر قلبه :"إنني متهالك... إنني مريض للغاية فاعذروني" فلم يعلن رجل كابن باديس أنه انهار فمعنى ذلك أن في الأمر ما يدفع إلى التساؤل عن كيفية الرعاية التي كان يحظى بها في مدينة قسنطينة وأعني بذلك الرعاية الصحية والغذائية والنفسية.
ومن قائل أنه مات موتة طبيعية، وهو ما يؤكده الأستاذ عبد الحق أخو الشيخ بن باديس : " كان ابن باديس نحيف الجسم، ولم يكن يُعطي لنفسه قسطا من الراحة، فيومه يبدأ مع صلاة الصبح، ولا ينتهي إلا في ساعة متأخرة من الليل، وهذا لمدة 25 سنة قضاها بأيامها ولياليها في التدريس والتفسير، وإلقاء المحاضرات ودروس الوعظ والإرشاد، والكتابة في الصحافة، وإدارة الأعمال الإدارية وكثرة السفر حيث كان يستقل قطار (قسنطينة – الجزائر) كل مساء أربعاء ليعود مساء كل جمعة, وزادت حصصه التدريسية اليومية لترتفع إلى ثلاث حصص في اليوم.. ومع أنه لم يكن يعاني من أي مرض حتى أنه لم يلبس في حياته نظارات طبية ولم يشتكي من تسوس أسنانه إلا أنه رقد في فراش المرض في 14 أفريل 1940 وعلى مدى ثلاثة أيام لم يستطع مغادرة فراشه فكان يقوم بتمريضه "من ضعفه وشحوبه" والده وشقيقته "بتول" طوال النهار ويتولى "عبد الحق" السهر معه ليلا، فالإرهاق والتعب والزهد في الحياة، وثقل المسئولية التي كانت يشعر بها تجاه الأمة الجزائرية هي السبب المباشر لوفاته عندما حان وقت تسليم الروح إلى خالقها".
- ولا يعلم الحقيقة إلا الله - وذلك شأن الناس عند موت كل عظيم.
وصف حي لشاهد معاصر لجنازة الشيخ عبد الحميد بن باديس
يعتبر الشيخ أحمد بوشمال بمثابة الساعد الأيمن للشيخ عبد الحميد بن باديس في حركته الإصلاحية (1913 – 1940)، وأمين سره، إلى جانب ذلك فهو مدير مطبعة الشهاب المسمات المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة.
وقد بعث الشيخ أحمد بوشمال، الرسالة التالية إلى الشيخ أحمد بن بوزيد قصبة، أحد رجالات الحركة الإصلاحية في مدينة لغواط وضواحيها، من جنوب جزائرنا الشاسع الأطراف.
وموضوع الرسالة المذكورة هو وصف حي لوفاة رائد النهضة الإسلامية العربية في الجزائر المعاصرة، وتاريخ وفاته، والجماهير الغفيرة التي سارت في جنازته، إلى المقبرة، والتي قدرتها الرسالة فيما بين خمسين وسبيعن ألف مواطن ومواطنة.
ثم أشار إلى أن وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس تعتبر مصيبة جلى، وداهية عظمى على الأمة الجزائرية.