الجزائر مستعمرة فرنسية (1870-1953)
جمعت الدول الأوروبية قواها لإرغام الجزائر على التوقف عن تعرضها لسفن تلك الدول، فهاجمت البحريتان البريطانية والهولندية الأسطول الجزائري سنة 1231هـ، 1815م فأصبحت سواحل الجزائر مكشوفة لهجمات الأعداء.
وقد دفعت فرنسا لاحتلال الجزائر عدة أسباب، منها فقدان فرنسا لمستعمراتها خلال حروب نابليون ورغبتها في تكوين إمبراطوريتها من جديد، وقد لقيت في ذلك تأييد دول أوروبا من وجهة نظر صليبية. كما أن الملك الفرنسي تشارل العاشر كان يعاني من تفاقم المعارضة الداخلية ضده، فرأى أن يصرف أنظار شعبه إلى الخارج بافتعال الحرب ضد الجزائر ويكسب نصرًا سهلاً. أما السبب المباشر فيكمن في أن فرنسا كانت قد مرت بضائقة اقتصادية شديدة إبان حروب نابليون وعداء الدول الأوروبية لها، فساعدتها الجزائر بأن باعتها حبوبًا بأثمان مؤجلة، وكان التاجران اليهوديان الأخوان بوشناق قد قاما بدور الوساطة في تلك الصفقة، فتآمرا وتلكأت فرنسا في دفع ما عليها، وألح داي الجزائر في الخلاص، فكانت حادثة المروحة التي اتخذتها فرنسا مبررًا لاحتلال الجزائر. لقد ادعت فرنسا أن قنصلها أهين من قِبَل الداي حسين في موكب رسمي، عندما جاء يهنئ هذا الأخير بعيد فطر سنة 1242هـ (28/ 4/1827م) فخاطبه بشأن الدين وغضب لرد ذلك القنصل، فضربه بكشاشة الذباب على وجهه. وجرت أحداث عدة وتهديد من فرنسا للداي بحصار إن لم يقدم اعتذارًا مهينًا عن الواقعة، ورفض الداي تقديم الاعتذار. وأخيرًا شنت حملة بحرية ضخمة على الجزائر، شاركت فيها 503 سفينة تحمل أربعين ألف جندي وثلاثة آلاف مدفع.
أنزلت الحملة الفرنسية قواتها بضاحية سيدي فرج، وهزمت جند الجزائر بعد خمسة أيام من المعارك، فدخلت مدينة الجزائر يوم 14/1/1246هـ (5/7/1830م). لكن سقوط مدينة الجزائر بتلك السهولة لم يؤد إلى خضوع البلاد، وإنما دفعها للسير في اتجاهين متوازيين: اتجاه الفرنسة والإلحاق الذي تبنته السلطات الاستعمارية، واتجاه المقاومة والجهاد الذي التزم به الشعب الجزائري واستمات فيه.
عمدت فرنسا إلى إلحاق الجزائر بها، وعينت عليها حاكمًا عامًا فرنسيًا يرجع بالنظر إلى وزارة الداخلية. وعملت جهدها لفَرْنَسَة البلاد، عن طريق محاولة فَرْنَسَة عرب الجزائر من ناحية، وجلب أعداد كبيرة من المهاجرين الأجانب عامة، والفرنسيين خاصة، ليستوطنوا الجزائر من ناحية أخرى. ولما أبدى الجزائريون رفضهم للتفرنس، عملت فرنسا على إبادتهم وتشريدهم ونشر الجهل والفقر بينهم. ومن الأساليب التي اتبعتها لتحقيق تلك الأهداف، محاربة اللغة العربية والدين الإسلامي بغلق الكتاتيب القائمة ومنع انتشار المدارس الأهلية، وفرض اللغة الفرنسية وحدها في التعليم، وبهدم المساجد وتحويل بعضها إلى كنائس (من أبرزها الجامع الكبير بمدينة الجزائر). والاستيلاء على مصادر الثروة، ومن ذلك مصادرة الأراضي الخصبة سواء أكانت ملكيات خاصة أم أراضي أوقاف أم أراضي جماعية للقبائل، لتسلمها إلى المستوطنين الأجانب. وقد فرض دستور سنة 1339هـ، 1920م الجنسية الفرنسية على الجزائريين، وكانت فرنسا بعد صدور هذا الدستور تفرض على الجزائريين واجبات المواطن الفرنسي كالخدمة العسكرية لكنها تحرمهم حقوق المواطنة، وتمارس عليهم تفرقة عنصرية ودينية. وبموجب تلك السياسة ساقت فرنسا عشرات الآلاف من شباب الجزائر إلى جبهات القتال أثناء الحربين العالميتين الأولى (1914 - 1918م) والثانية (1939 - 1945م)، وأجبرتهم على القتال في حروبها الاستعمارية لقمع انتفاضات شعوب المستعمرات الفرنسية في سوريا وإفريقيا والهند الصينية. تمسك الجزائريون بعروبتهم وإسلامهم، وقاوموا مائة و اثنين وثلاثين عامًا جنود الاحتلال قدموا فيها ما لا يقل عن مليون من الشهداء حتى أرغموا المستعمر على التسليم.
المقاومة الجزائرية للاحتلال
بدأت المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسي منذ سنة 1246هـ، 1830م أولى سنوات الاحتلال نفسها. وكانت على نوعين: مقاومة رسمية ومقاومة شعبية. وقد بدأ النوع الأول داي الجزائر واستمر بعد سقوط مدينة الجزائر في غرب القطر الجزائري بقيادة حسن باي وهران إلى أواخر 1249هـ، 1833م، وفي شرق القطر بقيادة باي قسنطينة إلى سنة 1253هـ، 1837م. وبدأ النوع الثاني من المقاومة عندما بايعت قبائل منطقة وهران في غرب الجزائر في صيف 1248هـ، 1832م الأمير عبد القادر بن محيي الدين ليقودها في الجهاد ضد الفرنسيين، فقادها في حركة مقاومة استمرت إلى سنة 1260هـ، 1844م. وقد سيطر عبد القادر على ثلثي أراضي الجزائر متخذًا من مدينة معسكر عاصمة له وأنشأ فيها مصانع حربية أيضًا، واستطاع أن يحصر المستعمر الفرنسي على الساحل غير قادر على التوغل إلى عمق البلاد، مما ألجأ هذا الأخير إلى سياسة المكر والمفاوضة، فعقد مع الأمير عبد القادر معاهدتين، واحدة سنة 1250هـ، 1834م وثانية سنة 1253هـ، 1837م، تمكن بينهما الجنرال كلوزل من احتلال مدينة معسكر. ولما عاد القتال بعد المعاهدة الثانية في سنة 1255هـ، 1839م اضطر الأمير إلى الانسحاب إلى المغرب الأقصى للاستنجاد بسلطانه. لكن الفرنسيين أجبروا هذا الأخير على عقد صلح معهم سنة 1260هـ، 1844م التزم بموجبه بإجلاء الأمير عبد القادر، الأمر الذي هيأ لاستسلامه سنة 1261هـ، 1845م وأسره فبقي في الأسر حتى 1301هـ، 1883م.
لم تهدأ القبائل فتتالت الانتفاضات الشعبية، وشن الجنرال راندون حملات انتقامية ضد القبائل الجزائرية مرتكبًا بحقها فظاعات يندى لها جبين الإنسانية. ومن تلك الانتفاضات انتفاضة بني سناسن سنة 1276هـ، 1860م، وانتفاضة أولاد سيدي الشيخ من 1281 إلى 1284هـ (1864 - 1867م)، وانتفاضة المقراني من نهاية 1287هـ إلى أواخر 1288هـ (1871 - 1872م). وقد كانت هذه الانتفاضة الأخيرة من أكثر الانتفاضات خطرًا على فرنسا، لأنها تصادفت مع هزيمة فرنسا أمام ألمانيا سنة 1870م، ودخول القوات الألمانية باريس وقيام انتفاضة الكمونة ضد الحكومة في العاصمة الفرنسية نفسها. وتميزت انتفاضة المقراني بشدتها واتساع رقعتها، ذلك أنها اندلعت شرقي القطر الجزائري فعمت جبال القبائل أولاً وإقليم قسنطينة ثم امتدت حتى أطراف سهل الميتجة غربًا وبسكرة جنوبًا، وأصبحت تسيطر على ثلث أراضي الجزائر. إلا أن عمرها كان قصيرًا، فقد استشهد أبرز زعمائها محمد أحمد المقراني في المعارك الأولى في الحادي عشر من فبراير عام 1871م، مما شتت الأطراف التي شاركت في هذه الانتفاضة ودفعها للمفاوضة من أجل التسليم، رغم أن بومرزاق المقراني، الذي خلف أخاه في زعامة الانتفاضة قد واصل الكفاح المسلح حتى أسرته القوات الفرنسية ومن بقي من أتباعه في شهر ذي القعدة 1288هـ (يناير 1872م). وقد تلت هذه الانتفاضة أكبر محاكمة من نوعها في فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وكانت أحكامها ذات طابع انتقامي، هدف إلى ردع الوطنيين حتى لا يحدّث أحدٌ نفسه بالانتفاضة مستقبلاً. وقد تمثلت في صدور 6,000 حكم بالإعدام خفف معظمها فيما بعد إلى الإبعاد إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة الفرنسية جنوبي المحيط الهادئ، وشمل ذلك الإبعاد بومرزاق وأسرة الشيخ الحداد. وفرض غرامات مالية باهظة على القبائل التي شاركت في الانتفاضة بلغت 36,5 مليون فرانك ومصادرة 500 ألف هكتار من أراضي تلك القبائل سلمت للمستعمرين. وقد كان لأساليب القمع الوحشية التي واجهت بها السلطات الفرنسية الأهالي أثناء الانتفاضة وبعدها أثر في بث روح اليأس في نفوس الجزائريين؛ فبعد انتفاضة أولاد سيدي الشيخ بزعامة بوعمامة سنة 1298هـ، 1881م، التي أخضعت بعدها فرنسا المناطق الصحراوية وأعلنت ضم واحات المزاب، ساد الهدوء البلاد الجزائرية حتى الحرب العالمية الأولى.