المثقف المسلم وبناء الوعي التاريخي
يحتاج المثقف المهتم بالشأن العام في أي أمة إلى بناء وعيه الذاتي بتاريخ أمته؛ سعيا إلى فهم أفضل لحاضره ومشاركة أكثر وعيا في رسم مستقبل أمته، حيث إن فهم حركة التاريخ وما يحكمها من ظروف وملابسات وما يحيط بها من بيئات وفهم القوانين والسنن التي تحكمها وفهم مقدماتها التي تؤدي إلى نتائج بعينها، كل ذلك مكون ضروري من مكونات وعي أي مثقف، وهو للمثقف العربي المسلم أدعى وأهم خاصة في ظل التحديات التي تكتنف حركة الأمة؛ سعيا من أجل النهضة والاستقلال الحقيقي الذي يقتضي فهما متعمقا لبنائها الداخلي وعلاقاتها بقوى وتحديات الخارج. إضاءات بين يدي المسارات
يقوم رسمنا للمسارات على فرضية أساسية هي: أن حركات الإحياء والإصلاح ومفكريها نجحوا في أن يبقى معنى الأمة الواحدة حيا في قلوب وعقول الكثيرين ممن يهتمون بالشأن العام لأمتهم، وأن حياة معنى الأمة هذا يقتضي الهم الدائم والدائب لإحيائها، الأمر الذي يبرر ويستدعي هذا الوعي التاريخي.ثانيا: أن هذا الإحياء المنشود لا تزال ترتسم له في العقول صورة مثالية مغرقة في البساطة والرومانسية تفترض خطأ أن عالم المسلمين قبل سقوط الخلافة كان عالما مثاليا، ومن ثم فلا ينقصنا إلا عودة الخليفة الحاكم الفرد الذي يحكمنا وحده من غانا إلى فرغانة سواء أكان مقر حكمه في القاهرة أم دمشق أم بغداد أم إستانبول.وهي فرضية تنبني على صورة وردية غير حقيقية وغير واقعية تناقض الواقع التاريخي، وتناقض مقتضيات العدل الذي يجب أن يقوم على حق الشعوب في أن تكون لها مشاركاتها في تدبير وسياسة شئونها، وهو ما لا ينفع معه نظام الخليفة الفرد، وقراءة التاريخ تنبئنا أنه مع الاتساع المضطرد لدولة الإسلام صار هذا الشكل من أشكال إدارة الدولة غير منطقي وغير ممكن. ومن ثم رأينا دائما ظاهرة الدولة المركزية والدويلات المجاورة أو المنضوية (المتغلبة) مما يمكننا أن نستنتج منه أن هذا هو منطق الأشياء، وربما يقتضي المنطق التفكير في شكل قريب للاتحاد الأوروبي الآن مثلا، يتدرج وينبني مع الزمن وهي الفكرة التي خلص إليها الدكتور عبد الرزاق السنهوري في دراسته لنظام الخلافة.ثالثا: وهو أن القضية ليست في الحقيقة قضية نظام حكم بل إن القضية قضية نهضة يجب أن تشمل جميع جوانب الحياة بتعقيداتها، كما ينبغي أن تشمل كافة فئات الأمة حتى يستطيع حتى هذا الحكم أن ينجح، أو حتى أن يتحقق له الوجود من الأساس، وهذه النهضة كما يمكن أن نستقرئ من التاريخ ليست فقط أمر الحكام، لكنها وقبل كل شيء أمر الشعوب وعليها أن تتدبره.رابعا: أن التاريخ هو في حقيقته خبرات وتجارب تمر بالشعوب وأن ما يصنع التقدم حقا، وما يجعل هناك فرق بين شعب وآخر، هو أن هناك شعوبا تستفيد من خبراتها وتجاربها بينما لا تفعل شعوب أخرى، وأن ما يحقق تلك الاستفادة هو تراكم الخبرات، وأن التاريخ لا ينبغي أن يكون مجرد تدوين للأحداث، بل لا بد له أن يأخذ شكل "توثيق التجارب والخبرات" الذي يستقرئ من مفردات الأحداث معاني ودروسا تجريدية تصلح لأن تكون أساسا للإفادة في المستقبل.بناء الأرضية العامة للوعي التاريخي
بناء الوعي التاريخي يقتضي في البداية قراءات متعمقة تتناول مجمل أحداث تاريخ الأمة عمقا في محور رأسي يبدأ من البعثة النبوية، وينتهي ويركز على فترة بناء الدول الحديثة، كما يقتضي أيضا قراءات تستعرض الأمة في محور أفقي بعرض اتساع انتشارها وتنوع ثقافاتها الفرعية والذي لم يعد يشمل فقط القاطنين للرقعة الجغرافية الممتدة من غانا إلى فرغانة كما كان يعبر الدكتور محمد عمارة، بل إن اتساع الأمة بات يشمل مساحة الأرض كلها بعدما انتشرت الأقليات المسلمة هنا وهناك في أرجاء المعمورة، ولعلنا يمكننا أن نقسم مجالات الاستعراض التاريخي العام رأسيا وأفقيا إلى المحاور الفرعية التالية: أولا رأسيا: - السيرة النبوية ومرحلة الخلافة الراشدة.- مرحلة الدول الإسلامية المتعاقبة من الأموية إلى العثمانية.- مرحلة بناء الدول الحديثة (مثلا في مصر على سبيل المثال منذ حلول الحملة الفرنسية وما تلاها من تولي محمد علي سدة الحكم في مصر، ثم ما مر بتلك الدولة من أدوار مع خلفاء محمد علي مرورا بالاحتلال الإنجليزي، ثم ثورة يوليو والمراحل المختلفة التي مرت بها دولة الاستقلال الموهوم وصولا إلى مرحلة إعادة الاستعمار التي نعيشها الآن) وهي من أهم المراحل التي ينبغي قراءتها بعمق حيث إننا لا نزال نعيش في ظلها. ثانيا أفقيا:- دول القلب في الأمة الإسلامية وتشمل البلدان العربية والبلدان الإسلامية الرئيسية كتركيا وإيران وباكستان وإندونيسيا وآسيا الوسطى.- دول الأطراف في العالم الإسلامي وتشمل دول ومناطق الأقليات أو الدويلات المسلمة القديمة كالبلقان وإفريقيا، والقوقاز ودول نهر الفولجا، ودول شرق آسيا.- الأقليات المسلمة في العالم الغربي: أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية، وهي التي تمثل دول الواجهة الآن حيث تجري الفصول الجديدة للمواجهة الغربية/الإسلامية.مسارات متخصصة للوعي التاريخي
يقتضي الأمر بعد ذلك القراءة المتخصصة في تاريخ أمتنا سواء أكان هذا التخصص من ناحية الجغرافيا، أم من الناحية الموضوعية، ولنمثل بذلك مثلا بالمثقف العربي الذي يعيش في مصر:فعلى المحور الجغرافي:- يمثل الاهتمام بالتاريخ المصري للمصريين بؤرة الوعي التاريخي المتخصص، ومن أهم المصادر في هذا الصدد سلسلة الكتب التي ألفها المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي بداية من الحملة الفرنسية وانتهاء بما بعد ثورة يوليو 1952.وعلى المحور الموضوعي:فيمكنه تتبع تاريخ النظم والفئات المختلفة للأمة المصرية وعلاقات بعضها ببعض، وعلاقة الحكام بالمحكومين وعلاقة الأمة المصرية بالأطماع الخارجية وذلك وفق المحاور المقترحة التالية:- الأمة المصرية في رؤى الرحالة الغربيين.- الأجانب ودورهم في التاريخ المصري الحديث والمعاصر: الأرمن- اليونان- الشوام- الإيطاليين والفرنسيين وغيرهم.- طوائف الأمة المصرية المختلفة: الأقباط - اليهود.- تاريخ النظم: نظام التعليم- نظام التشريع القضاء- النظام الصحي- نظام الحكم- منظومة العلوم والتكنولوجيا- النظام المالي والاقتصادي بأنشطته المختلفة: زراعة وتجارة وصناعة.- التاريخ الأهلي: الأوقاف- القبائل والعائلات- الجمعيات الأهلية- الثقافة والمجتمع، فئات الشعب المختلفة كطوائف الحرف، والعمال والحركة العمالية، والفلاحون والحركة الطلابية، والحركات السياسية والأحزاب، والحركات النسائية، تاريخ الصحافة، وتاريخ الأدب والفكر والتعبير الفني.- تاريخ العلاقات الدولية للدولة المصرية.- شخصيات ورؤى ومواقف في التاريخ المصري الحديث والمعاصر.ولا يتوقف الوعي التاريخي للفرد المثقف عند هذا الحد بل لا بد أن يتعداه إلى مساحات أكثر تخصصا، ولأضرب مثلا بمتخرج من كلية الطب وممارس سابق للعمل الطبي، وممارس حالي للون من ألوان الإعلام العلمي، وهو ما يقتضي منه أن يقوم قراءات أكثر تخصصا في المجالات التالية:-تاريخ الطب والمهن الطبية.- تاريخ الإعلام العلمي.- تاريخ التعليم العلمي.- تاريخ المؤسسات الأهلية التي تمارس نوعا من التنشئة العلمية.- تاريخ مؤسسات البحث العلمي.- تاريخ النشر العلمي.الوعي التاريخي وأزمة المصادر
من أكبر المشكلات التي تواجه المثقف الباحث عن بناء وعيه التاريخي هي أزمة المصادر والتي تتجلى في:- غياب المصادر أحيانا عن بعض المساحات، فعلى سبيل المثال تندر المصادر أو تكاد تغيب عن مساحات تاريخ العلوم سواء النظرية منها كالكيمياء أو الفيزياء أو التطبيقية كالطب والهندسة وما تحيط بها من مؤسسات ومنظومات كالتعليم والبحث والإعلام العلمي.- تلون المصادر بحسب رؤى ومواقف الباحثين التاريخيين ما بين محليين أو مستشرقين ذوي أيديولوجيات يسارية أو إسلامية أو ليبرالية ومدى تأثير تلك الأيديولوجيات على بحوثهم التاريخية ذكرا وإغفالا، تكبيرا وتصغيرا، تحليلا وتفسيرا.. إلخ.فعلى سبيل المثال لم أجد مصدرا واحدا شافيا في تاريخ الطب والأطباء في مصر أو العالم العربي اللهم إلا كتاب أخير أعدته الباحثة الفرنسية "سيلفيا شيفولو" تحت عنوان "الطب والأطباء في مصر.. بناء الهوية المهنية والمشروع الطبي" وترجمه مشروع الترجمة الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر عام 2005، ناهيك عن غياب أي مصدر شاف في تاريخ الإعلام العلمي المصري أو العربي، وقد تلون كتاب الباحثة الفرنسية كثيرا برؤية الباحثة كونها فرنسية غربية تدرس موضوعا في الأنثروبولجيا الطبية يتداخل فيه تاريخ العلم بالثقافة والدين والسياسة والنظم، تاريخ يمتد ما بين احتلال واستقلال.وهذا ما جعل الكتاب بالرغم من أهميته مجالا خصبا لبث الرؤى الخاصة في التعليق والتحليل والتفسير الخاص بالباحثة، وهو بلا شك مثال دال على أزمة مصادر بناء الوعي التاريخي لأمتنا، ولعل تلك الأزمة تدفع باحثينا في مجال التاريخ إلى ارتياد مساحات لم يتم ارتيادها من قبل أو قليلة الرواد للإسهام بشكل فعال في هذه المهمة الجليلة، وهي مهمة إنارة مساحات مظلمة في الوعي التاريخي.